الخميس، 21 أبريل 2011

التسامح..تربية وثقافة مجتمع



رشا فرحات

قررت بدون تردد محدثة نفسي" عن ثقافة التسامح يجب أن أكتب شيئاً، وذلك للكثير من الأسباب، أولها، انتم تعرفونه...وثانيها في الواقع أيضاً تعرفونه، وثالثها لأنكم بالطبع تعرفونه ...وهو أنه...يتسبب بـ...ما هو...قصدي... من باب...أقصد لأن الظروف....يمكن لأن ...أو لأن...أو لأن ........وفي النهاية أنتم تعرفون....

من أجل كل الأسباب السابقة الذكر يجب أن أكتب عن ثقافة التسامح ..
وليس شيئاً عادياً ما يجب أن نكتب، شيئاً دسماً، شيئاً مفتول العضلات، شيئاً يقرب الصورة البعيدة، شيئاً لابد أن يكون أكثر إقناعا أو لربما كان بالفعل مقنعاً، شيئاً.... " خلص فلندخل في الموضوع بدون فلسفات زيادة "  

هذا ما حدثت نفسي به قبل أن أتوجه ذاهبة لحضور احتفال يقيمه أحد مراكز الطفولة في مدينة غزة بمناسبة يوم الطفولة.  دخلت إلى المركز بصحبة صغيرتي ياسمين، الوديعة، الرقيقة، الهادئة " تشبهني تماماً في كل الصفاااااات". المهم .. جلسنا على سجادة مخصصة للأطفال في منتصف القاعة الرئيسية للمركز، وقد نشرت فوقها العاب مختلفة للأطفال دون سن الأربع سنوات، وفرحت كثيراً لهذه الجلسة الطفولية، وأمسكت يدا ياسمين الصغيرتين، وأجلستها بجانب الأطفال، ولكني لاحظت خوفها وخجلها وانطواءها فطلبت من أحدهم أن يأتي ليلعب معها، وقد كان سنه مقارباً لسنها تقريباً ولكنه يتميز عنها بمميزات من نوع مغاير، فهو مفتول العضلات، جاحظ العينين، يبدو وكأنه مقبل على عملية قتل، غالباً  بعد خروجه من المركز وأثناء عودته إلى بيته، وأمه تجلس في الكرسي المقابل ترفع أحد حاجبيها متربصة بحرص بالغ، وكأنها تنتظر فريسة لتنقض عليها، أو نكشة من أي نوع لتبدأ بممارسة هوايتها بالشجار التي تعتز بها على ما يبدوا" هذا حسب ملاحظاتي التي غالبا ما تكون دقيييييييييييقة"

المهم.. جلس الطفل المعجزة، الذي دعوته للجلوس مع ابنتي، كنوع من أنواع التعارف " فلسفة زيادة"  وما أن جلس جلسته حتى سحب صندوق الألعاب من أمام ياسمين، وجمعها ووضعها في حضنه الدافئ تاركاً ابنتي تنظر إليه وعلامات الألم مرسومة على وجهها، وإذا تجرأت ومدت يدها،  صرخ في وجهها مشيرا إلى اللعبة" هادي إلي، بدي العب فيها" وإذا نقلت يدها إلى لعبة أخرى، سحبها بقوة مكشراً مردداً " هادي إلي، بدي العب فيها"
وهكذا حتى عادت ياسمين مستسلمة تنظر الي، خائفة لا تجرؤ على مد يدها لأي لعبة من الألعاب التي في الصندوق، وأنا لا أدري ماذا افعل، وكلي ندم لدعوتي الغبية التي دعوته إليها من البداية.

 المهم ..حاولت التدخل في محاولة لخلق جو من المصالحة، وزرع نوع أخر من الألفة، وتفجير نوع ثالث من المحبة ، بينه وبين ابنتي، فقلت له ظناً مني أنني أتحدث إلى طفل بريء المفترض أنه يتسم بعلامات الوداعة والمسامحة والحب.. كعادة الأطفال:
- "حبيبي خليها تلعب معك"
صرخ الطفل: "لااااااااااا، يا.......... "
وقبل أن أفتح فمي لأعبر عن استغرابي، كانت أمه تصرخ من بعيد صرخات الظالم، وتنظر إلينا نظرات المفترى عليهم، وصوتها يرن رناً في القاعة المكيفة الرحبة، وكأنه صوت طرازان ينادي من أعلى الشجرة: "اسماعيييييييييييييييييل ، إلي بضربك أضربوا..."

سألت نفسي: "ضرب ، من الذي فكر في الضرب؟!!"  لكن والله ملاحظة مهمة، جديرة بالنظر، يعني طلعت من أصحاب نظرية  "إلي بضربك اضربوا"، وأنا منذ أن عرفت أنواع المخاصمة والشجار وأنا ألقن أبنائي كل صباح نصوصاً في ثقافة المسامحة حتى أصبحوا للأسف "ممسحة الحارة، والمدرسة، والعائلة، وكل من هب ودب" وأنا والله أهنيء أم إسماعيل على تربيتها العريقة لأبنها الذي لا يسمح لابنتي باللعب معه.

 " طبعاً هذا ما حدثت به نفسي فقط، وأنا مسترجية أحكي ، مانتو ما شفتوش أم إسماعيل"

والتفت إلى الطفل هامسة بحذر" مش خوف يعني، مجرد حذر":
- "طبعا ما هما قالوا يا فرعون مين إلي فرعنك، والله ما حدا فرعنك أنت وأمك غير أمثالي من إلي عاملين فيها بفهموا، نازلين هتف عن التسامح وثقافة المصالحة..والى أخره..أمك هادي كيف بدنا نقنعها بضرورة التسامح"  هذا ما تحدثت به مع مكنونات نفسيتي المحطمة المكسورة، وأنا أشعر بالذل لضعفي المفضوح أمام ابنتي الصغيرة. 

ثم تابعت " بيني وبين مكنونات نفسيتي طبعاً" إسماعيل وأمه أكيد من عيلة واصلة "


بينما سحبت يدا ياسمين وتنازلت له عن بقية الألعاب" بكل رضا والله ودون أي ضغائن" وجلست مع ابنتي نأخذ جانباً محايداً، بدون أي من الألعاب، وأنا اختلس النظر إلى إسماعيل متوجسة خيفة" حلوة متوجسة " وقد حاصرنا حصاراً اخوياً ومنعنا حتى من اللعب معه في الألعاب، كما أن أبنتي ياسمين المسالمة لم تعترض " تشبهني تماماً في كل الصفااااات"، لكنها نظرت إلى وجهي لعلي أحاول أن أساعدها، لكني خفت أنا الأخرى من إسماعيل، وأمه التي سحبت كرسيها وجلست تفترش بوابة المركز تراقبنا من بعيد  "زي حراس السيد الوزير...."
وهذا لا يعني ضعفاً مني وإنما لأني اعرف تماماً أن هناك فرق في النهاية بين الطفل إسماعيل، وبين ابنتي  ياسمين.

أنا ضربت مثالاً بسيطاً لكي أصل إلى استنتاج بسيط أيضاً، وهو ذلك الطفل الذي تعود على ثقافة " إلي بضربك اضربوا" كيف يمكننا أن نطلب منه بعد عشر سنوات أن يفهم ثقافة المسامحة، ثم الحوار، ثم المصالحة؟!   وتخيلت إسماعيل ذلك الطفل وقد كبر وأصبح شاباً، تخيلته بطلاً في مشهد أخر يصوره موقف أخر قد تعرضت له أيضاً، موقف بسيط، تملأه علامات البغضاء وقد حطم كل أمل لدي في المصالحة، مختلف لكنه مشابه من حيث المضمون.

فحينما كنت أبحث عن بعض المعلومات العامة عبر الانترنت عن أحد الوزراء في غزة، قبل أن اذهب لعمل مقابلة صحفية معه قد حددت موعدها مسبقاً، وهي عادتي في محاولة معرفة أكبر قدر من المعلومات عن الشخصية التي سأقابلها حتى أكون أكثر ثقة في طرح أسئلتي.

المهم أنني وجدت فيديو: يو تيوب" يعرض مقابلة سابقة مع الوزير، وقبل أن أبدأ بالمشاهدة وتدوين ملاحظاتي، قرأت التعليقات التي أدرجت مع الفيديو، والتي أدرجتها أنا شخصياً تحت بند" مصيبتنا مصيبة" الذي أدرج تحته كل المصايب التي أراها في حياتي، وقد كانت المصيبة هي تلك التعليقات الحربية الحزبية العنصرية المدمرة التي بدت وكأنها تخرج من أفواه بندقية، أو من طائرة اف ستة عشر، سكستين،  كونكورد" زي ما بدك"  والتي كانت كالتالي:

- الأول: الوزير هادا يا شباب بقرب للعميل، فلان ....
- الثاني: العميل فلان هادا من قرايبك يا أخو الـ............هادا وزير الـ.....وزير محترم وأشرف منك ومن كل أهلك يا ابن الـ.....
- الأول:من غير قلة أدب يا ابن الـ......... أنا بسأل سؤال بكل أدب كلمني بأدب لو سمحت، يا أخو الـ...
-الثاني: أدب، ما هو هادا انتو فالحين فيه يا فـ.... بتقرصوا وبتلبدوا، زي الحية.
- الأول: حية في عينك يا حـ... يا ابن الـ....يالي طلعتوا على أكتاف الفـ...
ثم يكمل، إحنا بدنا نلعب على بعض، ما هو وزيركو يا شاطر الي كل عيلته عملا يا..... يا ابن الـ...........
- الثاني: أنت وعيلتك وقرايبك وكل أهلك يا .....يا ابن ااـ.....يا كـ....
- ثالث يتدخل : عميل مين يا ابن الـ......، هادا العميل الي حكيت عنه بطل وأحسن من كل عيلتك انتو الي عملتوه عميل يا أولاد الـ............
- رابع من نفس عائلة الوزير يتدخل: عائلة مين الي بتحكي عنها عملا يا ابن الـ...صرمايتهم بكل أهلك يا أخو الـ...
- خامس  يحاول أن يتقمص دور" واسطة الخير" : يا جماعة وحدوا الله
- قريب الوزير يرد: أنت خليك في حالك الله يرضى عليك
- "واسطة الخير" يرد: يا خوي أنا ماليش صالح ، انتو بتتقاتلوا عشان مين، الله يجحمهم الاثنين
- "قريب الوزير": يجحمك لحالك يا ابن العملا
- "واسطة الخير" أنا ابن عملا الله يسامحك، يا كلـ...، يا ابن الكـ...
ثم ينهي " واسطة الخير حديثه" هي جزاة الي بتدخل عشان يصلح، إن شالله بتولعوا انتو الاثنين مع بعض، الله لا يردكو، يا ولاد الــ..

......
وهكذا استمرت النقاشات حامية الضرب والنقر والسباب، بين ولاد الـ....وولاد الـ.... حتى شعرت بالعار، وما زاد شعوري بالعار، هو خوفي، أجل خوفي، الذي انتقل حتى بات يغلف قلوب أطفالنا، أجيال المستقبل القادم، خوفي على قلوبهم الصغيرة المدججة بحقد دفين، يتلقوه عبر دروس يومية فرضتها عليهم الأحزاب السياسية والتربية على ثقافة الصراع والنزاع، وعدم المسامحة، منذ كانوا صغاراً يلعبون، هل يا ترى نستطيع إعادة البرمجة الداخلية لهؤلاء الأطفال بعد أن يكبروا، ويبتلعوا كل أخطاءنا التربوية السيئة، الملغمة بأنواع الصراع الحزبي المنتشر على أرض وطن كان رمزاً للمحبة والسلام في يوم من الأيام، يجب أن نعيد ترتيب هذه الأوراق التربوية، مستغلين وسائل الإعلام المحلية والفضائية، التي باتت تحتاج لإعادة صياغة وبرمجة لتصل بأبنائنا إلى ترسيخ ثقافة التسامح التي باتوا يحتاجون إليها، وأن نعاقب كل معلم، أو تربوي أو قائم على العملية التربوية إذا ما حاول زج صراعات الحقد السياسي في قلوب صغارنا، وقبل أن نهتف في الميادين العامة، مطالبين بالمصالحة الفلسطينية يجب أن نزرع في قلوبهم الصغيرة ثقافة مجتمع متحضر، ثقافة مبنية على التسامح والمغفرة،  حتى نخرج بمجتمع متصالح من الداخل أولاً قبل أن يكون متصالحاً من الخارج.

ليست هناك تعليقات: